على الرغم من ظروفه الصحية
التي لم تعد تسمح له بهامش كبير من النشاط الدولي فقد إستقبل الرئيس الجزائري عبد
العزيز بوتفليقة خلال 48ساعة كلا من راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة (الثلاثاء)
والباجي قائد السبسي رئيس حركة نداء تونس(الأربعاء) وإكتفت وكالة الأنباء
الجزائرية الرسمية ببرقية جافة تليق بوكالة أنباء عربية إثر كل لقاء جاء فيهما أن اللقاء
بحث العلاقات الأخوية المتميزة التي تربط البلدين الشقيقين و الجارين و ضرورة
اتخاذ كل ما من شأنه تنميتها و تعميقها في كافة المجالات، ومقتضيات إنجاح المسار
الإنتقالي في تونس كما تم التطرق أيضا إلى الأوضاع في المنطقة.
وفي كل الأحوال لا يمكن
لأي متابع للشأن السياسي أن يهضم بيسر أن الرئيس بوتفليقة إستقبل الغنوشي وقائد
السبسي ليستمع إلى تصورهما حول الوضع في سوريا مثلا، أو مقترحاتهما لتطوير
العلاقات الثنائية التونسية الجزائرية الضاربة في القدم، مصدر مطلع أفادنا بأن
الجزائر سحبت بشكل فعلي الملف التونسي من قطر الدولة التي كانت تقدم نفسها ويقدمها
حلفاؤها وشيوخها على أنها حاضنة ثورات الربيع العربي، فبعد تخلي الأمير حمد عن
العرش لولي عهده والانسحاب القصري لوزير الخارجية حمد بن جاسم بن جبر ًآل ثاني تراجع
الدور القطري في المنطقة العربية عموما وانحسر في الملف السوري، وأمام هذا المعطى
الجديد تحركت الجزائر التي صنّفت على أنها معادية لثورات"الربيع العربي"
لتؤكد أنها لم تغفل يوما عن تونس جارتها الصغيرة في كل المراحل ذلك أن الجزائر زمن
الرئيس هواري بومدين لم تكن بعيدة مثلا عن
إفشال إتفاقية الوحدة التونسية الليبية (معاهدة جربة 1974) ، وإلى الجزائر هرب
أحمد بن صالح ومحمد مزالي ولم تخن الجزائر يوما عهدا وهو ما منحها مصداقية عالية ،
ويأتي التحرك الدبلوماسي الجزائري ليتوج
التحرك العسكري الذي بموجبه تمت محاصرة إرهابيي الشعانبي ويعترف عسكريون ميدانيون
تونسيون أن الجزائر قدمت مساعدات إستخباراتية ثمينة لإنجاح ضربات الجيش الوطني التي استهدفت الإرهابيين المرابطين بالجبل على
تخوم الحدود الشرقية للجزائر فضلا عن ملاحقة قوات الجيش والأمن الجزائرية
للإرهابيين المتسللين عبر الحدود والقضاء عليهم دون تردد.
وتفيد مصادرنا أنّ مقابلة
بوتفليقة-قائد السبسي قد استغرقت ساعتين وهي سابقة في استقبالات الرئيس الجزائري
منذ تعرضه لأزمة صحية قبل أشهر يرجح أنها متعلقة بإصابته بمرض السرطان، عالج إثرها
في فرنسا لمدة طويلة وقد نصحه أطباؤه بضرورة ملازمة الراحة .
وعلى الرغم من أن الجزائر
الرسمية لا تنظر بارتياح كبير لتيار الإسلام السياسي عموما بسبب مرارة سنوات الإرهاب الأعمى خلال عشرية التسعينات التي
تورطت فيها حركات إسلامية متطرفة ، فإن نظام بوتفليقة نجح في النظر إلى الحالة التونسية بإعتبارها
وضعية استثنائية، ذلك ان الجزائر هي التي آوت عددا كبيرا من الإسلاميين التونسيين خلال سنوات محنتهم مع نظام بن علي، تعتبر
نفسها صاحبة فضل على من هم اليوم في دفة السلطة في الجارة تونس، ولا يمكن لها أن
تدير ظهرها لما يحدث فيها،
ولا يخفى أن علاقة شخصية
تجمع الرئيس بوتفليقة بالباجي قائد السبسي الذي قام حين توليه رئاسة الحكومة
المؤقتة بأول زيارة خارجية له إلى الجزائر، ويرجح ان تلعب الجزائر دور الضامن في
أي اتفاق يتم التوصل إليه بين المعارضة وفي مقدمتها حركة نداء تونس وحكومة
الترويكا بقيادة حركة النهضة ذلك أن نقطة الخلاف الرئيسية التي تعثرت بسببها
المشاورات بإشراف الإتحاد العام التونسي للشغل هي مسألة الضمانات لخروج آمن لحركة
النهضة من السلطة، فقد إقترحت النهضة على معارضيها
إنهاء المسار التأسيسي( إستكمال الدستور، تشكيل الهيئة المستقلة للإنتخابات،
القانون الإنتخابي، تحديد موعد الإنتخابات) ثم إعلان استقالة الحكومة، وهو عرض
ترفضه جبهة الإنقاذ التي تطالب بإعلان استقالة الحكومة فورا مع القبول بمواصلة
عملها كحكومة تصريف أعمال إلى غاية إنهاء المسار التأسيسي، وتصر المعارضة على هذا
الخيار لتضع حدا للتعيينات التي تقوم بها الترويكا والتي يدور حولها جدل كبير إذ تعتبرها المعارضة
تعيينات حزبية تهدف إلى الإمساك بمفاصل الدولة إعدادا للانتخابات القادمة ...
وأمام تمسك كل طرف بموقفه،
فقد بات لزاما تدخل جهة خارجية موضع ثقة
لها ثقلها في تونس ولا ينظر إلى تدخلها على أنه تدخل في الشأن الداخلي ومسّ بالسيادة
الوطنية ذلك أن العلاقات التاريخية التونسية الجزائرية وإختلاط الدم التونسي بالدم
الجزائري في أحدث ساقية سيدي يوسف(1958) فضلا عن التواصل الإنساني بين الشعبين(علاقات
المصاهرة، ومثال ذلك أن أمّ المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد من مدينة صفاقس) كل هذه العوامل
تجعل التدخل الجزائري مقبولا من طرف مختلف الأطياف السياسية في تونس.
وعلى الرغم من التكتم
التام حول تفاصيل المحادثات إلا أن خيار إسناد رئاسة الدولة إلى الباجي قائد
السبسي يظل قائما لتأمين مرحلة انتقالية قد تمتد إلى سنة في أقصى الحالات تنتهي
بتنظيم انتخابات رئاسية تشرف عليها حكومة توافقية تزكيها حركة النهضة نفسها لتجنيب
البلاد أي منزلق سياسي لا يمكن تحمل تبعاته.
وبإمساك الجزائر بالملف
التونسي في هذه المرحلة الانتقالية تستعيد الدبلوماسية الجزائرية جانبا من نجاحاتها
القديمة التي عصفت بها أزمة التسعينات فالرئيس الجزائري نفسه كان مهندس
الديبلوماسية الجزائرية وقد تولى بوتفليقة وزارة الخارجية وهو في السادسة والعشرين
من العمر وأدارها طيلة أكثر من خمسة عشر عاما (1963-1978)، وقد كشف موقع ويكيليكس
عن الدور الهام الذي قام به بوتفليقة يشكل شخصي لحل أزمة إحتجاز وزراء النفط
المجتمعين بفيانا سنة 1975 إذ أورد السفير الأمريكي بالجزائر ريتشارد بوردو باركر، أن تسيير الجزائر لأزمة
احتجاز وزراء النفط المجتمعين بفيينا في 1975 تم بفعالية كبيرة وبتحكم وبرودة أعصاب،
وأضاف السفير لنظيره النمساوي في برقية دبلوماسية مؤرخة في 23 ديسمبر 1975 أن
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لعب دورا كبيرا في تحرير الوزراء الرهائن وإنهاء
الأزمة دون وقوع قتلى، خصوصا مع تهديد كارلوس قائد العملية بتصفية وزيري النفط
السعودي والإيراني. وحسب المصدر ذاته، اعتبر السفير الأمريكي أن الرئيس بوتفليقة،
الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الخارجية تحكم في إدارة الأزمة و«قام بعمل جيد»، و
قال «بفضل إدارته الجيدة للأزمة عزّز من سمعة الجزائر " وأضاف الدبلوماسي
الأمريكي في حديثه عن حادثة اختطاف وزراء النفط في منظمة الدول المنتجة والمصدرة
للنفط «أوبك» من قبل إلينيش راميريز سانشيز المشهور بكارلوس والملقّب بـ «الثعلب»
أن يومين بعد الواقعة وبعد تحرير عشرين محتجز، توجّه كارلوس الناشط في صفوف الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين بالرهائن نحو الجزائر، علما أنه قام مباشرة بعد اقتحام موقع
الاجتماع بتقسيم وزراء النفط المشاركين إلى ثلاث مجموعات، مجموعة الوزراء
المحايدين، التي ضمّت وزراء النفط لكل من فنزويلا، نيجيريا، أندونسيا، الإكوادور،
مجموعة وزراء دول الصمود والتحدي للكيان الصهيوني، وضمت وزراء نفط الجزائر،
الكويت، ليبيا والعراق، إضافة إلى مجموعة وزراء أطلق عليها «المجرمين» وضمت وزراء
السعودية، الإمارات، إيران وقطر، وهي المجموعة التي كانت مستهدفة من عملية اقتحام
مبنى الأوبك واحتجاز الوزراء كرهائن. وأشار السفير الأمريكي أنه ساعتين فقط بعد
هبوط الطائرة «dc-9» كان للرئيس بوتفليقة لقاء مع أحد الخاطفين بالقاعة الرسمية للاستقبالات
بمطار الجزائر قبل أن يؤكّد الرئيس هواري بومدين بعد الظهيرة أن بوتفليقة هو من
سيتكفل بالمفاوضات رفقة وزير الداخلية والمدير العام للأمن الوطني آنذاك، وأفاد،
أن الحديث بين بوتفليقة وكارلوس دامت قرابة الخمس ساعات، ووافق كارلوس على تحرير
30 وزيرا وطلب طائرة تقلّهم إلى وجهة غير معلومة حسب المصدر ذاته، ، وفي 23 ديسمبر
أعلن نجاح مهمة الرئيس بوتفليقة بتحرير كل الرهائن وتسليم المختطفين أنفسهم
للجزائر.
كما لعبت الجزائر دورا بارزا في
مسار العلاقات العراقية الإيرانية فعلى أرضها أبرمت إتفاقية 6مارس 1975 بين شاه
إيران وصدام حسين نائب الرئيس العراقي آنذاك ، وفي ليلة 3ماي 1982 توفي محمد
الصديق بن يحي وزير الخارجية الجزائري ليلة إثر حادث طائرة على بعد 50 كيلومترا من الحدود
الفاصلة بين العراق وتركيا حيث كان في مهمة ديبلوماسية لحل الخلاف بين العراق وإيران بعد اندلاع الحرب بينهما .
وفي 4 أفريل 1988 هبطت بالجزائر الطائرة الكويتية المختطفة "الجابرية"
التي كانت تقل 111راكبا بعد رحلة بين مطار مشهد بإيران ومطار بيروت الذي
رفض استقبالها قبل أن تحط بقبرص حيث قتل راكبان كويتيان للضغط على السلطات
الكويتية لتزويد الطائرة بالوقود ثم اتجهت الجابرية إلى الجزائر حيث انتهت الأزمة
بعد تسعة أيام من مفاوضات شاقة لم تكشف تفاصيلها بإطلاق سراح الركاب والخاطفين
المنتمين لحزب الله اللبناني ، فهل تكون عودة الجزائر إلى واجهة الدبلوماسية
العربية والدولية من بوابة جارتها الشرقية وهل تستيقظ طموحات الجزائر لتولي دفة
قيادة جامعة الدول العربية بعد أن فشلت مساعيها سابقا في إقرار مبدأ تدوير منصب
الأمين العام الذي كان ومازال حكرا على
مصر باستثناء عهد الشاذلي القليبي الذي
غادر الجامعة مطلع التسعينات بعد مباركة بيت العرب لضرب العراق بسبب غزوه للكويت
...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire